بقلم.
د.سيد سليمان ابوشادي
لقد بات إصلاح منظومة التربية و التكوين من القضايا الرئيسية التي تؤرق بال المسؤولين الحكوميين في شتى أنحاء المعمورة إيمانا منهم بأن تكوين الرأسمال البشري يعد الدعامة الأساسية لكل نهضة اقتصادية و اجتماعية و تنمية مجتمعية مستدامة. وقد ترجم هذا في تبني العديد من المقاربات و تجريب الكثير من وصفات الإصلاح، قصد الوصول بالتعليم إلى أعلى المستويات وانعكاس ذلك على جودة التكوين والتأهيل للموارد البشرية لتمكينها من الاندماج في محيط عالمي يتميز بالتنافسية في جميع المجالات و مواكبة التطورات و التحولات التي يشهدها العصر مع تنامي اقتصاديات المعرفة وتحديات العولمة. غير أن إصلاح التعليم يحتاج إلى نظرة شمولية تهم كافة الجوانب والمجالات، نظرة تتجاوز المقاربات التجزيئية و الحلول الترقيعية و تتعدى البعد الكمي. فالإصلاح يجب أن يكون شموليا و مبنيا على النوعية و الجودة في مختلف مكونات المنظومة التربوية. لهذا اختارت بعض الدول الرائدة في مجال التعليم اعتماد نظام الجودة في إصلاح منظوماتها التربوية، نظام أبان عن نجاعته و فعاليته في تحقيق النتائج المرجوة. فما هي إذن معايير الجودة في التعليم ؟ وما هي آليات تحقيق الجودة في إصلاح التعليم؟
لا شك بأنّ الاهتمام بالتعليم وتطويره وتحسينه أصبح أولويّةً من أولويات الدول المختلفة حول العالم، لأنّ التعليم هو الذي يحدّد حضارة ورقيّ وتميّز بلدٍ ما عن البلدان الأخرى، ويُقصد بجودة التعليم الجودة الخاصّة بكلّ من عمليتي (التعليم والإدارة) وتطوير هاتين العمليتين بما يحقّق حاجات المجتمع وبما يضمن إحداث تغيير جذري في أنظمة التعليم التقليديّة ونقلها من صورتها النمطيّة القائمة على الحفظ والتلقين إلى الصورة الجديدة القائمة على التحليل والتفكير والإبداع والعمل الجماعي.
معايير جودة التعليم:
هناك مجموعة من المعايير المطلوبة لتحقيق الجودة في التعليم، ومنها:
- جودة المناهج العلميّة والمقرّرات المدرسيّة واستنادها إلى مرجع علمي يتمثّل بالموضوعيّة والثقة.
- جودة البنية التحتيّة التي يعتمد عليها النظام الدراسيّ، وتلبية الحاجات المختلفة للمنظومة الدراسيّة ويشمل ذلك المرافق المتعدّدة التي تلزم الطلاب.
- كفاءة الهيئة التدريسيّة والإداريّة والأقسام المختلفة التابعة للمنظومة التعليميّة.
- التحسين المستمرّ في كافة جوانب التعليم ويشمل ذلك المنهج العلمي.
- الأسلوب الإداري، وأساليب التحفز والدعم.
- اعتماد نتائج التحصيل الدراسي على أساس التفكير والتحليل والعمل الجماعي للطلاب، لا على أساس الحفظ والتلقين والأنظمة التقليديّة القديمة.
- وجود الإمكانات الماليّة اللازمة لتطوير البيئة التعليميّة.
- إدخال التكنولوجيا والأساليب الحديثة في المنظومة التعليميّة. الاعتماد على المهارات العملية والتطبيقية بشكلٍ أساسي في التعليم.
- نتائج التحصيل الدراسي.
- التحسين المستمر والذي يعتمد علي التحسين المستمر PDCA.
آليات لتحقيق الجودة في التعليم:
هناك مجموعة من الآليات التي من شأنها المساهمة في تحقيق جودة التعليم، ومنها:
- اعتماد استيراتيجيّات جديدة في بناء المقرّرات الدراسيّة بناءً على معايير الجودة، والتركيز على تحقيق الهدف الأساسي من التعليم وهو إخراج جيل يملك شخصيّة قوية وقادرعلى التعبير عن نفسه، والتركيز على كيفية تحقيق هذه الأهداف.
- الاهتمام بتحسين البنية التحتية للمنظومة التعليمية في المدن والقرى على حدٍ سواء، بهدف إتمام الدراسة على أحسن وجهٍ ممكن.
- العناية بالموارد البشرية واختيار الكفاءات المؤهّلة في مجال التعليم وتوفير ظروف عمل جيدة ويشمل ذلك العائد المادي والحوافز وتوفير الاحترام والتقدير لكادر المعلمين وإعطائهم كافة حقوقهم، مما ينعكس إيجاباً على المنظومة التعليمية ككل. التركيز على توفير الإدارة الجيدة التي من شأنها ضبط أمور منظومة التعليم بأحسن كفاءة ممكنة.
- توفير التمويل الكافي والحرص على استخدامه بالطريقة الصحيحة، والحرص على ترشيد النفقات بما يحقق كافة مطالب المنظومة التعليمية. الاستفادة من التجارب العملية الناجحة في الغرب والنظر في تجارب الدول السباقة والرائدة في مجال التعليم الإبداعي، والحرص على دراسة حالات النجاح المختلفة والعمل على إسقاط هذه التجارب على أرض الواقع بما يتناسب مع ظروف الدولة.
- تحسين العرض التربوي في المدن و القرى: عملا بمبدأ تكافؤ الفرص يجب توسيع العرض التربوي و تجويده في القرى كما في المدن لإتاحة الفرصة للجميع من أجل إتمام الدراسة في أحسن الظروف، و هنا وجب الاهتمام أكثر بالبنية التحتية للمؤسسات التعليمية و مدها بكل الوسائل و الإمكانيات لتؤدي الأدوار المنوطة بها و تقدم خدمات ذات جودة معتبرة.
- الاستفادة من الخبرات الأجنبية: نظرا لعالمية نظام الجودة بات لزاما الاستعانة بالتجارب و الخبرات الأجنبية، خصوصا من الدول الرائدة و السباقة لتبني هذه المقاربة مع الحرص على القيام بدراسات سوسيولوجية وتاريخية كافية قبل إدخال أي تعديلات على المنظومة التربوية و ذلك لضمان توافقها مع مبادئ نظام الجودة.
الجودة في التعليم من خلال التجربة الفنلندية:
- لقد أصبحت فنلندا تحتل مركز الصدارة في مجال التعليم حسب نظام التقييم الدولي واستطاعت تحقيق نتائج باهرة تجعل المتتبع للشأن التربوي يقف مذهولا أمام إنجازات هذه التجربة الفريدة و التي تعد نموذجا في تبني نظام الجودة في التعليم . فما هي أسرار نجاح التجربة الفنلندية؟
- ما من شك فيه أن الجميع أصبح واعيا بمحورية المتعلم في العملية التعليمية التعلمية ومكانته في المنظومة التربوية، لكن الوعي بهذا المعطى لحد ذاته لا يكفي للنهوض بقطاع التربية والتكوين. ولقد اختار النظام التربوي في فنلندا أن يعطي الأولوية المطلقة للمتعلم في كل مجالات الإصلاح انطلاقا من مبادئ احترام الفرد و صيانة حقوقه خصوصا حقه في تعليم ذو جودة مبني على أساس تكافؤ الفرص. و لعل شعار ̋ أن كل تلميذ يعتبر مهما̏ خير دليل على الأهمية القصوى التي منحت لكل فرد من أفراد المجتمع في هذا البلد الذي يعتبر الإنسان مصدر ثروته الأولى.
و هذه بعض مميزات النموذج الفنلندي لتطبيق نظام الجودة في التعليم :
- بنية تحتية مساعدة و محفزة: تعتبر المدرسة في فنلندا فضاء للحياة يحس فيه المتعلم أنه مرحب به، فضاء واسع حيث تناهز مساحة القسم الدراسي فيه 65 مترا مربعا، كما تشتمل المدرسة على أماكن متعددة ومختلفة للاستراحة ومرافق أخرى كالمكتبات و الخزانات والملاعب الرياضية وقاعات الأنشطة والمسارح تتميز كلها بمستوى عال من النظافة ومهيأة بشكل جيد لاحتضان أنشطة المتعلمين .
- احترام خصوصيات كل طفل: يعطي النظام التربوي الفنلندي الأولوية للمتعلم فيحترم إيقاع تعلمه خصوصا في المستويات الدنيا حيث يتم التركيز على تطوير المهارات عبر أنشطة يدوية أو فنية أو رياضية يعتمد فيها بشكل أساسي على بيداغوجيا اللعب نظرا لميل المتعلم في هذه المرحلة إلى اللعب و التسلية حتى أثناء تعلمه. كما يتم الإنصات الدائم لحاجات المتعلمين و الرصد المبكر لتعثراتهم الدراسية قصد المساعدة على تجاوزها في حينها .
- أقسام مخففة: قد يتفاجأ البعض ببعض المعطيات عن النظام التعليمي الفنلندي خصوصا إذا قارنها بالواقع التعليمي في بلاده. حيث يبلغ عدد التلاميذ في القسم الفنلندي 25 تلميذا على الأكثر، يتم تقسيمهم أحيانا إلى أفواج من 6 أو 7 تلاميذ يؤطرهم مدرس رئيسي و آخر مساعد. و في رياض الأطفال لا يتعدى عددهم في كل قسم 12 طفلا تسهر عليهم ثلاث مربيات و مساعدة واحدة.
- طرق بيداغوجية حديثة: إن منطق التعلم في فنلندا يقوم بالأساس على مبدأ مساعدة المتعلم على التعلم ويقتصر دور المدرس على التنظيم و المساعدة بعيدا عن الإلقاء و الحشو. فالمتعلم يتمتع باستقلالية واسعة تمكنه من اختيار الوحدات الدراسية التي يرغب بها و بناء المنهاج الدراسي الخاص به و المساهمة في عملية التخطيط.
- نظام تقويم مرن و محفز: لا يعتمد نظام التقويم في فنلندا على النقطة العددية الجزائية لتمييز المتعلمين – خصوصا الفئات العمرية الصغيرة – و اتخاذ قرار بالنجاح أو الرسوب. فالقانون يمنع التكرار إلا في حالات استثنائية بعد موافقة المعني بالأمر وأسرته. وهكذا تتاح الفرصة لكل متعلم أن يتحسن تبعا لإمكاناته الذاتية وإيقاعه الخاص. وحتى عندما يشرع في التنقيط بدءا من سن الثالثة عشر فإن التلميذ ينقط من 4 إلى 10، و يمنع منحه الصفر حتى لا يشعر بالإحباط و الفشل. فالمهم هو تثمين المكتسبات عند المتعلم و تشجيعه على التعلم الذاتي بدل إبراز نقائصه.
- تدقيق شروط ولوج المهنة: تعد مهنة التعليم في فنلندا من أرقى المهن و أعلاها شأنا لما توليه الدولة و المجتمع لها من أهمية، فلا غرابة من تشديد إجراءات انتقاء المدرسين والإلحاح على ضرورة التوفر على مجموعة من الشروط و المواصفات، في مقدمتها الإلمام بعوالم الطفل النفسية و حب المهنة .
- تكوين يستجيب لحاجيات المدرسين: بعد عملية الانتقاء يستفيد المترشحون لمهنة التدريس من تكوين أساسي يجمع بين ما هو نظري و ما هو عملي تطبيقي من خلال إنجاز تدريبات في مدارس تطبيقية خاصة. وبالإضافة للتكوين الأساس، يشارك المدرسون في دورات تأهيلية منتظمة للتكوين المستمر قصد تجديد مؤهلاتهم وتطوير قدراتهم المهنية.
- وسائل مادية رهن الإشارة: يتم تجهيز المدارس بكل الوسائل الضرورية لإنجاز الأنشطة التعليمية التعلمية فتجد مثلا في القسم العادي مسلاطا و حاسوبا و تلفازا و أقراصا مدمجة إضافة إلى كتب ومراجع عديدة متوفرة بما يكفي لمشاركة كل متعلم في عملية بناء التعلمات.
- العلاقات الإنسانية في المدرسة: يسود جو من الاحترام المتبادل بين المدرسين و الإداريين و التلاميذ يطبعه وعي بالحقوق والواجبات تغلب عليه روح التعاون والتآزر و استعداد كل طرف لمساعدة الأطراف الأخرى، مما يخلق شعورا لدى المتعلمين بالاطمئنان و الرضا عن جودة فضائهم المدرسي. فالمدرسة ليست فقط فضاء مجهزا بالوسائل و التجهيزات لاكتساب المعارف و المهارات و إنما هي كذلك وسط للعلاقات الإنسانية النبيلة تؤثر في بناء شخصية المتعلم لتكسبه قيم الاحترام و التسامح و التعاون و التكافل .
- استقلالية المؤسسات التعليمية و تقييم أدائها: يخول النظام التربوي في فنلندا للمؤسسات التعليمية مستوى متقدما جدا في استقلالية تدبير شؤونها و منحها كافة الصلاحيات الإدارية و المالية، وعهد إليها تكييف المناهج التعليمية مع حاجيات متعلميها و خصوصيات منطقتهم. لكن في نفس الوقت أخضعها لنظام تقييم أدائها بشكل دوري ومستمر من خلال تعبئة استمارات عبر شبكة الإنترنت من طرف التلاميذ وأولياء أمورهم للتعبير عن مدى رضاهم عن جودة الخدمات التي يستفيدون منها في مؤسستهم.